
و من لم يصانع في أمور كثيرة
يضرّس بأنياب و يوطأ بمنسم
(زهير بن أبي سُلمى)
هذا البيت من معلقة زهير بن أبي سُلمى ، معناه أن من لم يجامل الناس و يداورهم في الأمور ، قهروه و غلبوه و أذلوه و ربما كشّروا عن أنيابهم و وطأوه بمناسم الإبل. هذا البيت جعلني أفكّر فيما كان للنبي ﷺ من أخلاق كريمة، و خُلُق عظيم. فإن النبي ﷺ لم يقض حياته قبل البعثة بين أحبابه و أصحابه ، بل قضى أربعين سنة قبل المبعث بين مشركي مكة، يخالطهم و يتعامل معهم في حياته ليلاً و نهارًا، و يتعاطى فيهم التجارة و هو عيش طويل طريقها، وعرة مسالكها، كثيرة منعطفاتها، تعترضها وهدات مما قد يصدر عن المرء من خيانة و إخلاف الوعد و أكل مال الباطل ، و عبقات من الخديعة ، و تطفيف الكيل و غير ذلك ، و الرسول ﷺ قد اجتاز هذه السبل الشائكة الوعرة و خلص و نجا منها نقيًّا سالمًا ، لم يصبه شيئ مما يصيب عامة الناس حتى لقد لقبوه بالأمين
بل إذا تأملنا هذه النقطة ، نجد أن قريشًا بعد بعثته و إعلان النبوة ، ما زالوا يودعون عنده ودائعهم و أموالهم لعظيم ثقتهم به. و أنه لمّا هاجر إلى المدينة خلف من بعده عليّا ليردّ ما كان لديه من الوديعة إلى الناس . إنهم قاطعوه ، و عاندوه ، و صدّوا سبيله ، و أرادوا قتله، و سمّوه ساحرًا مجنونًا، رموه بالحجارة ، حتى ألقوا عليه صلي جزور و هو يصلي ، لكن لم يقدروا على أن ينسب إليه بشيئ من الكذب أو الخيانة أو إخلاف الوعد أو نقض العهد، أو يقولوا شيئا في أخلاقه الكريمة. بل إنهم أنفقوا أموالهم و بذلوا نفوسهم في عداوة الرسول ﷺ و ضحوا بفلذات أكبادهم في قتاله حتى قُتل منهم من قُتِل و جُرح كثيرون، لكنهم لم يستطيعوا أن يدنسوا ذيله الطاهر . فصلوات الله و سلامه عليه دائما أبدًا